ترامب وغزة- نزع الأقنعة عن سياسات الإبادة الغربية

المؤلف: حُسام شاكر09.10.2025
ترامب وغزة- نزع الأقنعة عن سياسات الإبادة الغربية

عندما تتجه الأنظمة التي تُطلق على نفسها زورًا وبهتانًا لقب "الديمقراطية الحرّة"، تلك الأنظمة المتوشحة بالشعارات البراقة والمزخرفة التي تدّعي القيم النبيلة، إلى تأييد ومساندة سياسات ظالمة أو ممارسات وحشية تُرتكب بحق شعوب أخرى في أصقاع بعيدة؛ فإنها تسعى جاهدة لتجميل وتزويق أفعالها المشينة هذه بغطاء قيمي وأخلاقي، وذلك إذا أخفقت في إخفاء هذه الأفعال عن أنظار شعوبها والرأي العام العالمي.

وهذا هو ما حدث بالتحديد وبشكل جليّ وواضح مع حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي استهدفت بكل ضراوة الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة المحاصر منذ شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2023. فمع بداية هذه الحرب الهمجية، أعلنت عواصم غربية كبرى عن دعمها المُسبق واللامحدود لحملة الاحتلال الإسرائيلي الغاشم على القطاع، وذلك بالرغم من النوايا الخبيثة لقادة الاحتلال المعلنة بخصوص ممارسة إبادة جماعية واسعة النطاق، وتهجير قسري للسكان، واقتراف جرائم حرب مُروّعة.

ولم تتردد بعض هذه العواصم الغربية إطلاقًا في تقديم دعم سياسي ودبلوماسي وعسكري واقتصادي ودعائي سخيّ للغاية لقيادة الاحتلال الفاشية في حربها الشرسة تلك، والتي بُثت فصولها مباشرة إلى العالم أجمع ليشهد على هذا الظلم.

وفي الجانب الدعائي تحديدًا، تبيّن بجلاء أن الخطابات الرسمية الغربية ذاتها قد انغمست في مغالطات ومراوغات صريحة ومُبطّنة، تعتمد بشكل أساسي على إلقاء اللوم على الضحية الفلسطينية وتحميلها المسؤولية الكاملة عما يقع عليها من صنوف العذاب والويلات، بينما تُصوّر المحتلّ المعتدي في صورة الحمل الوديع وتذرف دموع التماسيح عليه، مبررة له ضمنيًا ارتكاب أبشع الجرائم دون أي مساءلة أو تأنيب، وموفرة ذرائع جاهزة لجرائم الحرب التي يقترفها جيشه، وإن كانت وتيرة ذلك قد تراجعت بشكل نسبي مع تدفق الإحصائيات الصادمة والمشاهد المروّعة من الميدان الغزّي.

ليس سرًا أن المنصّات السياسية الرسمية في عواصم النفوذ الغربي قد تداولت مقولات نمطية مُحكمة الصياغة، وموظّفة في الأساس لشرعنة الإبادة الجماعية، ومن شأنها تبرير جميع الأساليب الوحشية التي تشتمل عليها، كالقصف العشوائي والقتل المتعمد والتدمير الممنهج والترويع المستمر والتشريد القسري والتجويع والإفقار.

تبدو هذه المقولات، كما يتضح عند التدقيق فيها، قادرة على تبرير سياسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب في أي بقعة على وجه الأرض، ولكن التقاليد الرسمية الغربية في هذا الصدد حافظت على ديباجات إنسانوية وأخلاقوية ظلت تستخدمها لتغليف سياساتها ومواقفها الداعمة للوحشية أو الراعية لها.

ومن الحيل المستخدمة في هذا التغليف الإنساني، إظهار الانشغال الدائم والمستمر بالأوضاع الإنسانية المتردية في قطاع غزة، مع الامتناع التام عن تحميل الاحتلال الإسرائيلي أي مسؤولية صريحة ومباشرة عن سياسة القتل الجماعي والحصار الخانق التي يتبعها.

بالإضافة إلى إبداء حرص شكليّ على "ضمان دخول المساعدات الإنسانية" وتمكين المؤسسات الإغاثية الدولية من العمل، وربما افتعال مشاهد مصوّرة مع شحنات إنسانية يُفترض أنها تستعد لدخول القطاع المُحاصر، كما فعل وزير الخارجية الأميركي آنذاك أنتوني بلينكن أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو مثلما ظهر مسؤولون غربيون عند إعلانهم في شهر مارس/ آذار من العام 2024 من قبرص عن مشروعهم "الواعد" المتمثل في الممر البحري إلى غزة، والذي تبيّن لاحقًا أنه لم يكن سوى فقاعة دعائية لا قيمة لها.

كان حديث العواصم الداعمة للإبادة عن الأوضاع الإنسانية المزرية في قطاع غزة وإبداء الحرص على إدخال المساعدات مجرد تغليف مثالي لسياساتهم التي تدعم في جوهرها فظائع الإبادة والحصار الوحشي، فقد أرادت من هذه الحيلة التنصل من صورة التورط في جرائم حرب واضحة للعيان، وإظهار رفعة أخلاقية زائفة يطلبها سياسيون وسياسيات حرصوا على الظهور الأنيق على منصّات الحديث في هيئة إنسانية مُرهَفة الحسّ، تلائم السردية القيمية التي تعتمدها دولهم بصفة مجرّدة عن الواقع في كثير من الأحيان.

جرى ذلك خلال موسم الإبادة الطويل في عواصم واقعة على جانبي المحيط الأطلسي، عندما كان جو بايدن هو رئيس الولايات المتحدة، ثم خرج بايدن في نهاية ولايته من البيت الأبيض ولعنات المتظاهرين تطارده بوصفه "جو الإبادة" الذي ظل في مقدمة رعاتها ولم يَقُم بكبحها رغم مراوغات إدارته اللفظية.

ثم برز الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب في المشهد من جديد ليطيح بتقاليد المواقف والخطابات المعتمدة حتى مع حلفاء الولايات المتحدة المقرَّبين.

تقوم إطلالات ترامب على منطق آخر تمامًا، فالرئيس الآتي من خارج الجوقة السياسية التقليدية يستمتع بالحديث المباشر المسدّد نحو وجهته دون أي مراوغات لفظية، ويتصرّف كحامل هراوة غليظة يهدِّد بها الخصوم والحلفاء على حد سواء، وينجح في إثارة ذهول العالم ودهشته خلال إطلالاته الإعلامية اليومية.

قد لا يرى البعض أن ترامب يهتم بانتقاء مفرداته، رغم أنه يحرص كل الحرص على الظهور في هيئة خشنة شكلًا ومضمونًا، وذلك لترهيب الأصدقاء قبل الأعداء، ولكي "يجعل أميركا عظيمة مجددًا" كما يزعم!

مع وصول إدارة دونالد ترامب إلى السلطة، تراجع الالتزام بالأعراف الدبلوماسية والاتفاقات الدولية بشكل ملحوظ، إذ فضّلت الإدارة الأميركية آنذاك اعتماد خطاب مباشر وصدامي، واتباع نهج يتجاوز التقاليد السياسية المتّبعة حتى مع الحلفاء المقرّبين. وقد تجلّى هذا التحوّل بوضوح في التعامل مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي كان حتى وقت قريب يحظى بدعم واسع في واشنطن والعواصم الغربية، قبل أن تنقلب المعادلة، ويظهر خروجه من البيت الأبيض في مشهد حمل دلالات رمزية واضحة على تغيّر السياسة الأميركية تجاه شركائها.

اختار ترامب لغة القوة الصريحة، مع إظهار التفوّق الأميركي بوصفه أداة ضغط فعّالة على الخصوم والحلفاء على حد سواء، الأمر الذي عكس توجّهًا جديدًا في السياسة الخارجية يقوم على فرض الإملاءات بدلًا من التفاهمات، وإعادة تعريف العلاقات الدولية من منظور أحادي الجانب يخدم المصالح الأمريكية فقط.

إنها قيادة جديدة للولايات المتحدة، الدولة التي تقود القاطرة الغربية، تحرص كل الحرص على إظهار السطوة والنفوذ، ولا تُلقي بالًا للقوّة الناعمة ومسعى "كسب العقول والقلوب" الذي استثمرت فيه واشنطن أموالًا طائلة وجهودًا مضنية وكرّست له مشروعات وبرامج ومبادرات وخبرات وحملات إعلامية واسعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

لقد انتفت الحاجة مع النهج الأميركي الجديد إلى ذلك التغليف الإنساني النمطي للسياسات الجائرة والوحشية، حتى إنّ متحدِّثي المنصّات الرسمية الجُدُد في واشنطن العاصمة ما عادوا يتكلّفون مثل سابقيهم إقحام قيَم نبيلة ومبادئ سامية في مرافعات دعم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزة. وبرز من الصياغات الجديدة المعتمدة، على سبيل المثال، ذلك التهديد العلني المُتكرِّر بـ"فتح أبواب الجحيم".

على عكس الحذر البالغ الذي أبدته إدارة بايدن في أن تظهر في هيئة داعمة علنًا لنوايا تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة خلال حملة التطهير العرقي التي مارسها الاحتلال في سياق حرب الإبادة؛ فإن ترامب عَقد ألسنة العالم دهشة وعجبًا وهو يروِّج لذلك التطهير العرقي ويزيد عليه من رشفة الأحلام الاستعمارية البائدة؛ بأن يصير قطاع غزة ملكية أميركية مكرّسة لمشروعات عقارية وسياحية أخّاذة ستحوّله إلى ريفيرا خالية تمامًا من الشعب الفلسطيني، و"كَمْ يبدو ذلك رائعًا" كما كان يردد بتهكم!.

لم تتغيّر السياسة الأميركية تقريبًا في جوهرها ومضمونها الحقيقي رغم بعض الفوارق الملحوظة التي يمكن رصدها، فما تغيّر بشكل أساسي هو التغليف الذي نزعته إدارة ترامب لأنها تفضِّل إظهار سياساتها ومواقفها ونواياها في هيئة خشنة وغير مُنمّقة.

ما حاجة القيادة الأميركية الجديدة بأن تتذرّع بقيم ومبادئ ومواثيق دولية وهي التي تتباهى بإسقاط القانون الدولي والإجهاز على تقاليد العلاقات بين الأمم وتتبنّى نهجًا توسعيًا غريبًا مع الحلفاء المقرَّبين في الجغرافيا بإعلان الرغبة في ضم بلادهم إلى الولايات المتحدة طوعًا أو كرهًا أو الاستحواذ على ثرواتهم الدفينة ومعادنهم النادرة؟!

أسقطت إدارة ترامب في زمن قياسي التزام واشنطن بمعاهدات ومواثيق دولية وإقليمية، وأعلنت حربًا ضروسًا على هيئات ووكالات تابعة لها، وخنقت هيئة المعونة الأميركية "يو إس إيد" التي تُعدّ من أذرع نفوذها وحضورها القوي في العالم، ودأبت على الإيحاء بأنها قد تلجأ إلى خيارات تصعيدية لم يتخيّلها أصدقاء أميركا قبل أعدائها.

قد يكون العالم مدينًا للرئيس ترامب بأنه تحديدًا من أقدم على إنهاء الحفل الخيري المزعوم ونزَع الغلاف الإنسانوي والأخلاقوي الزاهي عن سياسات جائرة ووحشية وغير إنسانية، يتجلّى مثالها الأوضح للعيان في حملة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وسياسات التجويع والتعطيش الفظيعة التي تستهدف الشعب الفلسطيني الصامد في قطاع غزة.

ذلك أنّ حبكة ترامب في فرض الإملاءات تقتضي الظهور في هيئة مستعدّة للضغط السياسي الهائل على مَن لا يرضخون له، بصرف النظر عن نيّته الحقيقية المُضمَرة، على نحو يقتضي التخلِّي عن كلّ أشكال اللباقة والتذاكي التي التزمها القادة والمتحدثون الرسميون في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى دعمت الاحتلال والإبادة وجرائم الحرب.

لقد أقضّت أميركا الجديدة مضاجع حلفائها وشركائها الغربيين، وأربكت خطاباتهم ومواقفهم، ولا يبدو أنّ معظم العواصم الأوروبية والغربية مستعدّة للتخلِّي عن الهيئة القيمية التي حرصت عليها في تسويق سياساتها وترويج مواقفها في المحافل الدولية.

يحاول عدد متزايد من العواصم الأوروبية إظهار التمايُز والاختلاف عن مسلك أميركا الجديد المُحرِج لسياسات دعم الاحتلال والاستيطان والإبادة والتجويع والتهجير والتوسّع، الأمر الذي اقتضى إطلاق تصريحات وبلاغات متعدِّدة تبدو حتى حينه أكثر جرأة في نقد سياسات الاحتلال الإسرائيلي في القتل الجماعي للمدنيين العزل، وتشديد الحصار الخانق على قطاع غزة المحاصر، واستهداف المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة، وفي توسّع الاحتلال في الجنوب السوري، حتى من جانب لندن وبرلين اللتيْن برزتا في صدارة الدول الداعمة للإبادة وتبريرها خلال عهد الرئيس بايدن.

لعلّ أحد الاختبارات الحاسمة التي تواجه عواصم القرار الغربي الأخرى هو مدى الجدِّية في مواقفها تلك، المتمايزة عن مواقف واشنطن، وهل يتعلق الأمر فقط بالحرص المعهود على التغليف والتجميل الذي قام ترامب بنزعه، أم أنّ ثمة تغييراً حقيقياً وجوهرياً قابلاً لأن يُحدث فارقًا ملموسًا في السياسات ذات الصلة على المسرح الدولي؟

من المؤكّد على أي حال أنّ غزة التي تكتوي بفظائع الإبادة الوحشية وتتهدّدها نوايا قيادة الاحتلال الفاشية ستكون اختبارًا مرئيًا لتمحيص هذه السياسات ومدى التزامها بالديباجات الأخلاقية والإنسانية التي تتكلّل بها، وأنّ السياسات الجائرة والعدوانية والوحشية باتت مؤهّلة لأن تظهر للعيان في هيئتها الصريحة كما لم يحدث من قبل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة